الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن ***
فَيُؤْتَى بِهِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ بِالْوَاوِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى فَضْلِهِ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْعَامِّ؛ تَنْزِيلًا لِلتَّغَايُرِ فِي الْوَصْفِ مَنْزِلَةَ التَّغَايُرِ فِي الذَّاتِ، وَعَلَى هَذَا بَنَى الْمُتَنَبِّي قَوْلَهُ: فَإِنْ تَفُقِ الْأَنَامَ وَأَنْتَ مِنْهُمْ *** فَإِنَّ الْمِسْكَ بَعْضُ دَمِ الْغَزَالِ وَابْنُ الرُّومِيِّ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: كَمْ مِنْ أَبٍ قَدْ عَلَا بِابْنِ ذُرَا شَرَفٍ *** كَمَا عَلَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ عَدْنَانُ وَحَكَى الشَّيْخُ أَثِيرُ الدِّينِ عَنْ شَيْخِهِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: " إِنَّ هَذَا الْعَطْفَ يُسَمَّى بِالتَّجْرِيدِ، كَأَنَّهُ جُرِّدَ مِنَ الْجُمْلَةِ وَأُفْرِدَ بِالذِّكْرِ تَفْصِيلًا ". وَلَهُ شَرْطَانِ فِي ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ ذَكَرَهُمَا ابْنُ مَالِكٍ: أَحَدُهُمَا: كَوْنُ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ. وَالثَّانِي: كَوْنُ الْمَعْطُوفِ ذَا مَزِيَّةٍ. وَحَكَى قَوْلَيْنِ فِي الْعَامِّ الْمَذْكُورِ: هَلْ يَتَنَاوَلُ الْخَاصَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ، أَوْ لَا يَتَنَاوَلُهُ؟ فَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ هَذَا نَظِيرَ مَسْأَلَةِ: " نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ " عَلَى الْمَشْهُورِ فِيهِ؛ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ لَفْظِ الْعَامِّ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ عَطْفُ الْخَاصِّ قَرِينَةً دَالَّةً عَلَى إِرَادَةِ التَّخْصِيصِ فِي الْعَامِّ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ، وَهُوَ نَظِيرُ بَحْثِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي نَحْوِ قَوْلِكَ: " قَامَ الْقَوْمُ إِلَّا زَيْدًا " مِنْ أَنَّ " زَيْدًا " لَمْ يَدْخُلْ فِي الْقَوْمِ، وَقَدْ يَتَقَوَّى هَذَا بِقَوْلِهِ: يَا حُبَّ لَيْلَى لَا تَغَيَّرْ وَازْدَدِ *** وَانْمُ كَمَا يَنْمُو الْخِضَابُ فِي الْيَدِ وَإِنْ كَانَ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْعَطْفِ الْعَامِّ. وَقَدْ أَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى الْقَوْلَيْنِ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ فِي قَوْلِهِ: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ} (الشُّعَرَاءِ: 147- 148). وَقَدْ يُقَالُ: آيَةُ الشُّعَرَاءِ إِنَّمَا جَازَ فِيهَا الِاحْتِمَالَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ لَفْظَ " جَنَّاتٍ " وَقَعَ بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ، وَلَمْ يَعُمَّ الْجِنْسَ، وَأَمَّا الْآيَةُ السَّابِقَةُ فَالْإِضَافَةُ تَعُمُّ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (الرَّحْمَنِ: 68) أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَوَاضِحٌ؛ لِأَنَّهُمَا يَقُولَانِ: إِنَّ النَّخْلَ وَالرُّمَّانَ لَيْسَا بِفَاكِهَةٍ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَقَوْلُهُ: " فَاكِهَةٌ " مُطْلَقٌ وَلَيْسَ بِعَامٍّ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} (الْبَقَرَةِ: 238) عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا إِحْدَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ غَيْرُهَا كَالْوِتْرِ وَالضُّحَى وَالْعِيدِ، فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} (الْأَعْرَافِ: 170) مَعَ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْكِتَابِ يَشْمَلُ كُلَّ عِبَادَةٍ، وَمِنْهَا الصَّلَاةُ، لَكِنْ خَصَّهَا بِالذِّكْرِ إِظْهَارًا لِمَرْتَبَتِهَا؛ لِكَوْنِهَا عِمَادَ الدِّينِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} (الْبَقَرَةِ: 98) فَإِنَّ عَدَاوَةَ اللَّهِ رَاجِعَةٌ إِلَى عَدَاوَةِ حِزْبِهِ، فَيَكُونُ جِبْرِيلَ كَالْمَذْكُورِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَإِنَّهُ انْدَرَجَ تَحْتَ عُمُومِ مَلَائِكَتِهِ، وَتَحْتَ عُمُومِ رُسُلِهِ، ثُمَّ عُمُومِ حِزْبِهِ، ثُمَّ خُصُوصِهِ بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عُومِلَ مُعَامَلَةَ الْعَدَدِ؛ فَيَكُونُ الذِّكْرُ ثَلَاثًا، وَذِكْرُهُمَا بَعْدَ الْمَلَائِكَةِ مَعَ كَوْنِهِمَا مِنَ الْجِنْسِ- دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ التَّنْوِيهِ بِشَرَفِهِمَا، عَلَى أَنَّ التَّفْصِيلَ إِنْ كَانَ بِسَبَبِ الْإِفْرَادِ فَقَدْ عَدَلَ لِلْمَلَائِكَةِ مِثْلَهُ بِسَبَبِ الْإِضَافَةِ، وَقَدْ يُلْحَظُ شَرَفُهُمَا عَلَى غَيْرِهِمَا. وَأَيْضًا فَالْخِلَافُ السَّابِقُ فِي أَنَّ ذِكْرَ بَعْضِ أَفْرَادِ الْعَامِّ بَعْدَ الْعَامِّ؛ هَلْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعَامِّ فِرَارًا مِنَ التَّكْرَارِ أَوْ يَدْخُلُ. وَفَائِدَتُهُ التَّوْكِيدُ، وَقَدْ حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ فِي " الْبَحْرِ " مِنْ كِتَابِ الْوَصِيَّةِ، وَخَرَّجَ عَلَيْهِ مَا إِذَا أَوْصَى لِزَيْدٍ بِدِينَارٍ وَبِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ، وَزَيْدٌ فَقِيرٌ، فَهَلْ يَجْمَعُ لَهُ بَيْنَ مَا أَوْصَى لَدَيْهِ وَبَيْنَ شَيْءٍ مِنَ الثُّلُثِ عَلَى مَا أَرَادَ الْوَصِيُّ؟ وَجْهَانِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُعْطَى غَيْرَ الدِّينَارِ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّقْدِيرِ قَطْعُ اجْتِهَادِ الْوَصِيِّ. قُلْتُ: وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ دُخُولِهِ تَحْتَ اللَّفْظِ هُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَتِلْمِيذِهِ ابْنِ جِنِّي، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا يَحْسُنُ عَدُّ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ هَذَا النَّوْعِ. وَأَيْضًا فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي الْكَلَامِ مَعْطُوفَانِ: هَلْ يُجْعَلُ الْآخَرُ مَعْطُوفًا عَلَى الْأَوَّلِ؟ أَوْ عَلَى مَا يَلِيهِ؟ وَقَعَ فِي كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْكَشَّافِ تَجْوِيزُ الْأَمْرَيْنِ. فَذَكَرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} (الْأَنْعَامِ: 95) أَنَّ " مُخْرِجًا " مَعْطُوفٌ عَلَى (فَالِقُ) لَا عَلَى (يُخْرِجُ) فِرَارًا مِنْ عَطَفِ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ، وَخَالَفَهُ ابْنُ مَالِكٍ وَأَوَّلَهُ. وَذَكَرَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} (الْبَقَرَةِ: 210) عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى اللَّهِ لِأَنَّ قَضَاءَهُ قَدِيمٌ. وَذَكَرَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (النِّسَاءِ: 1) حَاصِلُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} إِذَا أُرِيدَ بِهِ الْعُمُومُ كَانَ قَوْلُهُ: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} عَطْفًا عَلَى مُقَدَّرٍ؛ أَيْ: أَنْشَأَهَا وَأَوْجَدَهَا {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا} يَعْنِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ هَذِهِ صِفَتُهَا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمُخَاطَبُونَ بِمَكَّةَ كَانَ قَوْلُهُ: (وَخَلَقَ) عَطْفًا عَلَى (خَلَقَكُمْ) وَمُوجِبُ ذَلِكَ الْفِرَارُ مِنَ التَّكْرَارِ. وَعَلَى هَذَا فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ " جِبْرِيلَ " مَعْطُوفًا عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ، فَلَا تَكُونُ الْآيَةُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ وَلَوْ سَلَّمْنَا بِعَطْفِهِ عَلَى " رُسُلِهِ " فَكَذَلِكَ؛ لَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّسُلِ مِنْ بَنِي آدَمَ لِعَطْفِهِمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ، فَلَيْسُوا مِنْهُ. وَفِي الْآيَةِ سُؤَالَانِ: أَحَدُهُمَا: لِمَ خَصَّ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ بِالذِّكْرِ؟ الثَّانِي: لِمَ قَدَّمَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ؟ وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَصَّهُمَا بِالْحَيَاةِ؛ فَجِبْرِيلُ بِالْوَحْيِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ، وَمِيكَائِيلُ بِالرِّزْقِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ الْأَبْدَانِ، وَلِأَنَّهُمَا كَانَا سَبَبَ النُّزُولِ فِي تَصْرِيحِ الْيَهُودِ بِعَدَاوَتِهِمَا. وَعَنِ الثَّانِي: أَنَّ حَيَاةَ الْقُلُوبِ أَعْظَمُ مِنْ حَيَاةِ الْأَبْدَانِ، وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ: عَلَيْكَ بِالنَّفْسِ فَاسْتَكْمِلْ فَضَائِلَهَا *** فَأَنْتَ بِالنَّفْسِ لَا بِالْجِسْمِ إِنْسَانُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} (الرَّحْمَنِ: 68) وَغَلَطَ بَعْضُهُمْ مَنْ عَدَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ " فَاكِهَةً " نَكِرَةً فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَلَا عُمُومَ لَهَا، وَهُوَ غَلَطٌ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْعُمُومِ، كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبُ الطَّبَرِيُّ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ هَاهُنَا الْمُصْطَلَحَ عَلَيْهِ فِي الْأُصُولِ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ الْأَوَّلُ فِيهِ شَامِلًا لِلثَّانِي. وَهَذَا الْجَوَابُ أَحْسَنُ مِنَ الْأَوَّلِ؛ لِعُمُومِهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مَجْمُوعٍ يَشْتَمِلُ عَلَى مُتَعَدِّدٍ. وَلَمَّا لَمَحَ أَبُو حَنِيفَةَ مَعْنَى الْعَطْفِ- وَهُوَ الْمُغَايِرَةُ- لَمْ يُحَنِّثِ الْحَالِفَ عَلَى أَكْلِ الْفَاكِهَةِ بِأَكْلِ الرُّمَّانِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} (آلِ عِمْرَانَ: 104) إِذِ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ مِنْ جُمْلَةِ الدُّعَاءِ إِلَى الْخَيْرِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} (مُحَمَّدٍ: 2) وَالْقَصْدُ تَفْضِيلُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَا نُزِّلَ عَلَيْهِ؛ إِذْ لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهِ. وَقَوْلُهُ: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ} (يس: 73). وَقَوْلُهُ: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} (الْبَقَرَةِ: 96) فَفَائِدَةُ قَوْلِهِ: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} مَعَ دُخُولِهِمْ فِي عُمُومِ النَّاسِ أَنَّ حِرْصَهُمْ عَلَى الْحَيَاةِ أَشَدُّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ. وَقَوْلُهُ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (الْبَقَرَةِ: 3) فَهَذَا عَامٌّ {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (الْبَقَرَةِ: 4) وَإِنْ كَانَ الْإِيمَانُ بِالْغَيْبِ يَشْمَلُهَا، وَلَكِنْ خَصَّهَا لِإِنْكَارِ الْمُشْرِكِينَ لَهَا فِي قَوْلِهِمْ {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} (الْجَاثِيَةِ: 24) فَكَانَ فِي تَخْصِيصِهِمْ بِذَلِكَ مَدْحٌ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (الْعَلَقِ: 1)، فَعَمَّ بِقَوْلِهِ: " خَلَقَ " جَمِيعَ مَخْلُوقَاتِهِ، ثُمَّ خَصَّ فَقَالَ: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (الْعَلَقِ: 2). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} (الْأَنْعَامِ: 145) فَإِنَّهُ عَطَفَ اللَّحْمَ عَلَى الْمَيْتَةِ، مَعَ دُخُولِهِ فِي عُمُومِ الْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ كُلُّ مَا لَيْسَ لَهُ ذَكَاةٌ شَرْعِيَّةٌ، وَالْقَصْدُ بِهِ التَّنْبِيهُ عَلَى شِدَّةِ التَّحْرِيمِ فِيهِ. تنبيه: [تَخْصِيصُ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ] ظَاهِرُ كَلَامِ الْكَثِيرِينَ تَخْصِيصُ هَذَا الْعَطْفِ بِالْوَاوِ، وَقَدْ سَبَقَ عَنِ ابْنِ مَالِكٍ وَآخَرِينَ مَجِيئُهُ فِي " أَوْ " فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} (النِّسَاءِ: 110) مَعَ أَنَّ ظُلْمَ النَّفْسِ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ؛ فَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْوَاوِ، وَالْمَعْنَى يَظْلِمُ نَفْسَهُ بِذَلِكَ السُّوءِ حَيْثُ دَسَّاهَا بِالْمَعْصِيَةِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ} (الْأَنْعَامِ: 93) فَإِنَّ الْوَحْيَ مَخْصُوصٌ بِمَزِيدِ قُبْحٍ مِنْ بَيْنِ أَنْوَاعِ الِافْتِرَاءِ، خُصَّ بِالذِّكْرِ تَنْبِيهًا عَلَى مَزِيدِ الْعِقَابِ فِيهِ وَالْإِثْمِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} (آلِ عِمْرَانَ: 135) مَعَ أَنَّ فِعْلَ الْفَاحِشَةِ دَاخِلٌ فِيهِ، قِيلَ: أُرِيدَ بِهِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ ظُلْمِ النَّفْسِ؛ وَهُوَ الرِّبَا، أَوْ كُلُّ كَبِيرَةٍ، فَخَصَّ بِهَذَا الِاسْمِ تَنْبِيهًا عَلَى زِيَادَةِ قُبْحِهِ؛ وَأُرِيدَ بِظُلْمِ النَّفْسِ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الذُّنُوبِ.
وَهَذَا أَنْكَرَ بَعْضُ النَّاسِ وُجُوَدَهُ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَالْفَائِدَةُ فِي هَذَا الْقِسْمِ وَاضِحَةٌ، وَالِاحْتِمَالَانِ الْمَذْكُورَانِ فِي الْعَامِّ قَبْلَهُ ثَابِتَانِ هُنَا أَيْضًا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ} (الْأَنْعَامِ: 162) وَالنُّسُكُ الْعِبَادَةُ؛ فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الصَّلَاةِ. وَقَوْلُهُ: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (التَّوْبَةِ: 78). وَقَوْلُهُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} (الْحِجْرِ: 87). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِخْبَارًا عَنْ نُوحٍ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (نُوحٍ: 28). وَقَوْلُهُ: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} (التَّحْرِيمِ: 4). وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} (يُونُسَ: 31) بَعْدَ قَوْلِهِ: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ} (يُونُسَ: 31). وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ يَقَعَانِ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ؛ لَكِنَّ وُقُوعَهُمَا فِي الْأَفْعَالِ لَا يَأْتِي إِلَّا فِي النَّفْيِ، وَأَمَّا فِي الْإِثْبَاتِ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ بَلْ مِنْ عَطْفِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، أَوِ الْمُقَيَّدِ عَلَى الْمُطْلَقِ.
وَالْقَصْدُ مِنْهُ التَّأْكِيدُ وَهَذَا إِنَّمَا يَجِيءُ عِنْدَ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ؛ وَإِنَّمَا يَحْسُنُ بِالْوَاوِ، وَيَكُونُ فِي الْجُمَلِ كَقَوْلِهِ: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} (الْقِيَامَةِ: 34- 35). وَيَكْثُرُ فِي الْمُفْرَدَاتِ كَقَوْلِهِ: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} (آلِ عِمْرَانَ: 146). وَقَوْلِهِ: {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} (طه: 112)، {لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} (طه: 77). وَقَوْلِهِ: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} (الْمُدَّثِّرِ: 22). وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (يُوسُفَ: 86). وَقَوْلِهِ: {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} (الْمُدَّثِّرِ: 28). وَقَوْلِهِ: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} (النِّسَاءِ: 171). وَقَوْلِهِ: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} (طه: 107) قَالَ الْخَلِيلُ: الْعِوَجُ وَالْأَمْتُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ. وَقِيلَ: الْأَمْتُ أَنْ يَغْلُظَ مَكَانٌ وَيَرِقَّ مَكَانٌ، قَالَهُ ابْنُ فَارِسٍ فِي " الْمَقَايِيسِ "، وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَا قَالَهُ الْخَلِيلُ. وَقَوْلِهِ: {أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} (الزُّخْرُفِ: 80). وَقَوْلِهِ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (الْمَائِدَةِ: 48). وَقَوْلِهِ: {إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} (الْبَقَرَةِ: 171). وَفَرَّقَ الرَّاغِبُ بَيْنَ النِّدَاءِ وَالدُّعَاءِ بِأَنَّ النِّدَاءَ قَدْ يُقَالُ إِذَا قِيلَ " يَا " أَوْ " أَيَا " وَنَحْوَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُضَمَّ إِلَيْهِ الِاسْمَ، وَالدُّعَاءُ لَا يَكَادُ يُقَالُ إِلَّا إِذَا كَانَ مَعَهُ الِاسْمُ؛ نَحْوَ: " يَا فُلَانُ ". وَقَوْلِهِ: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} (الْأَحْزَابِ: 67). وَقَوْلِهِ: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} (الْأَحْزَابِ: 12). وَقَوْلِهِ: {لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} فَإِنَّ " نَصَبٌ " مِثْلُ " لَغَبٍ " وَزْنًا وَمَعْنًى وَمَصْدَرًا. وَقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 157) عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الصَّلَاةَ بِالرَّحْمَةِ، وَالْأَحْسَنُ خِلَافُهُ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ لِلِاعْتِنَاءِ وَإِظْهَارِ الشَّرَفِ، كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الرَّحْمَةِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْمُتَغَايِرَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} (الْبَقَرَةِ: 4) إِنَّهُمْ هُمُ الْمَذْكُورُونَ أَوَّلًا، وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الصِّفَةِ عَلَى الصِّفَةِ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ شَرْطَ عَطْفِ الصِّفَةِ عَلَى الصِّفَةِ تَغَايُرُ الصِّفَتَيْنِ فِي الْمَعْنَى؛ تَقُولُ: " جَاءَ زَيْدٌ الْعَالِمُ وَالْجَوَادُ وَالشُّجَاعُ " أَيِ: الْجَامِعُ لِهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ الْمُتَغَايِرَةِ، وَلَا تَقُولُ: " زَيْدٌ الْعَالِمُ وَالْعَالِمُ " فَإِنَّهُ تَكْرَارٌ، وَالْآيَةُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} (الْبَقَرَةِ: 3) وَالْمَعْطُوفُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} (الْبَقَرَةِ: 4)، وَالْمُنْزَلُ هُوَ الْغَيْبُ بِعَيْنِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُطْلَقُ الْغَيْبِ، وَالْمَعْطُوفُ غَيْبٌ خَاصٌّ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} (فَاطِرٍ: 25) فَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ هُوَ الزَّبُورُ، وَنَقَلَهُ عَنْ إِجْمَاعِ الْمُفَسِّرِينَ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ النَّعْتِ، كَمَا تُعْطَفُ النُّعُوتُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ؛ وَهَذَا يَرُدُّهُ تَكْرَارُ الْبَاءِ فَإِنَّهُ يُشْعِرُ بِالْفَصْلِ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ تَكْرَارِ الْعَامِلِ بَعْدَ حَرْفِ الْعَطْفِ إِشْعَارٌ بِقُوَّةِ الْفَصْلِ مِنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَعَدَمِ التَّجَوُّزِ فِي عِطْفِ الشَّيْءِ عَلَى نَفْسِهِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لِلتَّأْسِيسِ؛ وَبَيَانُهُ وَجُوهٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {جَاءَتْهُمُ} يَعُودُ الضَّمِيرُ فِيهِ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ لِلنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَيَكُونُ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَاخِلًا فِي الْمُرْسَلِينَ الْمَذْكُورِينَ وَالْكِتَابُ الْمُنِيرُ هُوَ الْقُرْآنُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا} (فَاطِرٍ: 26) مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أَيْ: كَذَّبُوا، ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بِقِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ {بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} (فَاطِرٍ: 25) وَجَاءَ تَقْدِيمُ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ قَبْلَ الْعَطْفِ؛ اعْتِرَاضًا لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَهُوَ مِنْ أَدَقِّ وُجُوهِ الْبَلَاغَةِ، وَمِثْلُهُ فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} (آلِ عِمْرَانَ: 184) وَقَوْلُهُ: (جَاءُوا) انْصِرَافٌ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ، كَأَنَّهُ قَالَ: " جَاءَ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورُونَ " فَيَكُونُ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَاخِلًا فِي الضَّمِيرِ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ " جِئْتُمْ بِالْبَيِّنَاتِ " فَأَقَامَ الْإِخْبَارَ عَنِ الْغَائِبِ مَقَامَ الْمُخَاطَبِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (جَرَيْنَ بِهِمْ) (يُونُسَ: 22) وَفِيهِ وَجْهٌ مِنَ التَّعَجُّبِ؛ كَأَنَّ الْمُخَاطَبَ إِذَا اسْتَعْظَمَ الْأَمْرَ رَجَعَ إِلَى الْغَيْبَةِ؛ لِيَعُمَّ الْإِخْبَارُ بِهِ جَمِيعَ النَّاسِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْآيَتَيْنِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ؛ كَأَنَّهُ قِيلَ: " الْكِتَابِ الْمُنِيرِ " يَعْنِي الْقُرْآنَ فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} (الصَّفِّ: 6) وَهَذَا وَجْهٌ حَسَنٌ. تنبيهاتٌ الْأَوَّلُ: أَنْكَرَ الْمُبَرِّدُ هَذَا النَّوْعَ، وَمَنَعَ عَطْفَ الشَّيْءِ عَلَى مِثْلِهِ؛ إِذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَأَوَّلَ مَا سَبَقَ بِاخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ؛ وَلَعَلَّهُ مِمَّنْ يُنْكِرُ أَصْلَ التَّرَادُفِ فِي اللُّغَةِ كَالْعَسْكَرِيِّ وَغَيْرِهِ. الثَّانِي: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَخْصِيصِ هَذَا النَّوْعِ بِالْوَاوِ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَقَالَ ابْنُ مَالِكٍ: وَقَدْ أُنِيبَتْ " أَوْ " عَنْهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا} (النِّسَاءِ: 128) {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا} (النِّسَاءِ: 112). قَالَ شَيْخُنَا: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِإِمْكَانِ أَنْ يُرَادَ بِالْخَطِيئَةِ مَا وَقَعَ خَطَأً، وَبِالْإِثْمِ مَا وَقَعَ عَمْدًا قُلْتُ: وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَ ذَلِكَ: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ} (النِّسَاءِ: 111). وَجَعَلَ مِنْهُ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ. . قُلْتُ: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَالِكٍ قَدْ سَبَقَهُ بِهِ ثَعْلَبٌ، فِيمَا حَكَاهُ ابْنُ سِيدَهْ فِي " الْمُحْكَمِ "؛ فَقَالَ ثَعْلَبٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} (الْمُرْسَلَاتِ: 6): الْعُذْرُ وَالنُّذْرُ وَاحِدٌ. قَالَ اللِّحْيَانِيُّ وَبَعْضُهُمْ: يُثَقِّلُ. وَعَنِ الْفَرَّاءِ: أَنَّهُ يُجْرَى فِي الْعَطْفِ بِثُمَّ، وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} (هُودٍ: 52) قَالَ: مَعْنَاهُ: وَتُوبُوا إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ الِاسْتِغْفَارُ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ قَدْ تَجَرَّدَ عَنِ الْعَطْفِ، وَجَعَلَ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} (فَاطِرٍ: 27) وَالْغَرَابِيبُ هِيَ السُّودُ {سُبُلًا فِجَاجًا} (نُوحٍ: 20) {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (الْفَاتِحَةِ: 3) وَغَيْرُ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: مِمَّا يَدْفَعُ وَهْمَ التَّكْرَارِ فِي مِثْلِ هَذَا النَّوْعِ، أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ مَجْمُوعَ الْمُتَرَادِفَيْنِ يُحَصِّلُ مَعْنًى لَا يُوجَدُ عِنْدَ انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا، فَإِنَّ التَّرْكِيبَ يُحْدِثُ مَعْنًى زَائِدًا، وَإِذَا كَانَتْ كَثْرَةُ الْحُرُوفِ تُفِيدُ زِيَادَةَ الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ كَثْرَةُ الْأَلْفَاظِ.
لِيُرَى الْمَعْنَى فِي صُورَتَيْنِ، أَوْ لِيَكُونَ بَيَانُهُ بَعْدَ التَّشَوُّفِ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَلَذُّ لِلنَّفْسِ، وَأَشْرَفُ عِنْدَهَا، وَأَقْوَى لِحِفْظِهَا وَذِكْرِهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} (الْحِجْرِ: 66). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الْإِخْلَاصِ: 1) فَإِنَّ وَضْعَ الضَّمِيرِ مَوْضِعَ الظَّاهِرِ مَعْنَاهُ الْبَيَانُ أَوِ الْحَدِيثُ، أَوِ الْأَمْرُ لِلَّهِ أَحَدٌ مَكْفُوًّا بِهَا ثُمَّ فُسِّرَ، وَكَانَ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ مِنَ الْإِتْيَانِ بِهِ مُفَسَّرًا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ؛ وَلِذَلِكَ وَجَبَ تَقْدِيمُهُ. وَتُفِيدُ بِهِ الْجُمْلَةُ الْمُرَادَ؛ تَعْظِيمًا لَهُ. وَسَيَأْتِي عَكْسُهُ فِي وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ. وَمِثْلُهُ التَّفْصِيلُ بَعْدَ الْإِجْمَالِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} (التَّوْبَةِ: 36). وَعَكْسُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 196). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} (الْأَعْرَافِ: 142) وَأَعَادَ قَوْلَهُ: (أَرْبَعِينَ) وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا مِنَ " الثَّلَاثِينِ " وَ " الْعَشْرِ " أَنَّهَا أَرْبَعُونَ لِنَفْيِ اللَّبْسِ؛ لِأَنَّ الْعَشْرَ لَمَّا أَتَتْ بَعْدَ الثَّلَاثِينِ الَّتِي هِيَ نَصٌّ فِي الْمُوَاعَدَةِ دَخَلَهَا الِاحْتِمَالُ أَنْ تَكُونَ مِنْ غَيْرِ الْمُوَاعَدَةِ، فَأَعَادَ ذِكْرَ " الْأَرْبَعِينِ " نَفْيًا لِهَذَا الِاحْتِمَالِ، وَلِيُعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَ الْعَدَدِ لِلْمُوَاعَدَةِ. وَهَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 196) أَعَادَ ذِكْرَ الْعَشَرَةِ، لَمَّا كَانَتِ الْوَاوُ تَجِيءُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِلْإِبَاحَةِ، وَقَوْلُهُ: (كَامِلَةٌ) تَحْقِيقٌ لِذَلِكَ، وَتَأْكِيدٌ لَهُ. فَإِنْ قُلْتَ: فَإِذَا كَانَ زَمَنُ الْمُوَاعَدَةِ أَرْبَعِينَ فَلِمَ كَانَتْ " ثَلَاثِينَ " ثُمَّ عَشْرًا؟ أَجَابَ ابْنُ عَسَاكِرَ فِي " التَّكْمِيلِ وَالْإِفْهَامِ " بِأَنَّ الْعَشْرَ إِنَّمَا فُصِلَ مِنْ أُولَئِكَ؛ لِيَتَحَدَّدَ قُرْبُ انْقِضَاءِ الْمُوَاعَدَةِ، وَيَكُونُ فِيهِ مُتَأَهِّبًا مُجْتَمِعَ الرَّأْيِ، حَاضِرَ الذِّهْنِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ الْأَرْبَعِينَ أَوَّلًا لَكَانَتْ مُتَسَاوِيَةً، فَإِذَا جَعَلَ الْعَشْرَ فِيهَا إِتْمَامًا لَهَا اسْتَشْعَرَتِ النَّفْسُ قُرْبَ التَّمَامِ، وَتَجَدَّدَ بِذَلِكَ عَزْمٌ لَمْ يَتَقَدَّمْ. قَالَ: وَهَذَا شَبِيهٌ بِالتَّلَوُّمِ الَّذِي جَعَلَهُ الْفُقَهَاءُ فِي الْآجَالِ الْمَضْرُوبَةِ فِي الْأَحْكَامِ، وَيُفْصِلُونَهُ مِنْ أَيَّامِ الْأَجَلِ، وَلَا يَجْعَلُونَهَا شَيْئًا وَاحِدًا؛ وَلَعَلَّهُمُ اسْتَنْبَطُوهُ مِنْ هَذَا. فَإِنْ قُلْتَ: فَلِمَ ذَكَرَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ- أَعْنِي الْأَعْرَافَ- الثَّلَاثِينَ ثُمَّ الْعَشْرَ، وَقَالَ فِي الْبَقَرَةِ: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} (الْبَقَرَةِ: 51) وَلَمْ يَفْصِلِ الْعَشْرَ مِنْهَا. وَالْجَوَابُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ: أَنَّهُ قَصَدَ فِي الْأَعْرَافِ ذِكْرَ صِفَةِ الْمُوَاعَدَةِ، وَالْإِخْبَارَ عَنْ كَيْفِيَّةِ وُقُوعِهَا، فَذَكَرَ عَلَى صِفَتِهَا، وَفِي الْبَقَرَةِ إِنَّمَا ذَكَرَ الِامْتِنَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَذَكَرَ نِعَمَهُ عَلَيْهِمْ مُجْمَلَةً، فَقَالَ: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} (الْبَقَرَةِ: 50) {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} (الْبَقَرَةِ: 49). وَاعْلَمْ أَنَّهُ يَخْرُجُ لَنَا مِمَّا سَبَقَ جَوَابَانِ فِي ذِكْرِ الْعَشَرَةِ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ وَالسَّبْعَةِ: إِمَّا الْإِجْمَالُ بَعْدَ التَّفْصِيلِ، وَإِمَّا رَفْعُ الِالْتِبَاسِ، وَيُضَافُ إِلَى ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ. ثَالِثُهَا: أَنَّهُ قَصَدَ رَفْعَ مَا قَدْ يَهْجِسُ فِي النُّفُوسِ، مِنْ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ إِنَّمَا عَلَيْهِ صَوْمُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ لَا أَكْثَرَ؛ ثَلَاثَةً مِنْهَا فِي الْحَجِّ، وَيُكْمِلُ سَبْعًا إِذَا رَجَعَ. رَابِعُهَا: أَنَّ قَاعِدَةَ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْجِنْسَيْنِ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَفِّرِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَلْزَمُ الْحَالِفَ أَنْ يُطْعِمَ الْمَسَاكِينَ وَيَكْسُوَهُمْ، وَلَا الْمَظَاهِرَ الْعِتْقُ وَالصَّوْمُ، فَلَمَّا اخْتَلَفَ مَحِلُّ هَذَيْنِ الصَّوْمَيْنِ فَكَانَتْ ثَلَاثَةً فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ، صَارَا بِاخْتِلَافِ الْمَحِلَّيْنِ كَالْجِنْسَيْنِ، وَالْجِنْسَانِ لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا. وَأَفَادَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 196) رَفْعَ مَا قَدْ يَهْجِسُ فِي النُّفُوسِ، مِنْ أَنَّهُ إِنَّمَا عَلَيْهِ أَحَدُ النَّوْعَيْنِ: إِمَّا الثَّلَاثُ وَإِمَّا السَّبْعُ. الْخَامِسُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ كَمَالٍ لَا ذِكْرُ الْعَشَرَةِ، فَلَيْسَتِ الْعَشَرَةُ مَقْصُودَةً بِالذَّاتِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُذْكَرْ إِلَّا لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّ التَّفْصِيلَ الْمُتَقَدِّمَ عَشَرَةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ، وَإِنَّمَا ذُكِرَتْ لِتُوصَفَ بِالْكَمَالِ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبٌ فِي الْقِصَّةِ. السَّادِسُ: أَنَّ فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا، وَالتَّقْدِيرُ: فَصِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ: ثَلَاثَةٌ فِي الْحَجِّ، وَسَبْعَةٌ إِذَا رَجَعْتُمْ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْأَصْلِ لَكِنَّ الْإِشْكَالَ أَلْجَأَنَا إِلَيْهِ. السَّابِعُ: أَنَّ الْكَفَّارَاتِ فِي الْغَالِبِ إِنَّمَا تَجِبُ مُتَتَابِعَةً، كَكَفَّارَاتِ الْجِنَايَاتِ، وَلَمَّا فَصَلَ هَاهُنَا بَيْنَ صَوْمِ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ بِالْإِفْطَارِ قَبْلَ صَوْمِهَا بِذِكْرِ الْفِدْيَةِ؛ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا وَإِنَّمَا كَانَتْ مُنْفَصِلَةً فَهِيَ كَالْمُتَّصَلَةِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ لَا تَجِبُ مُتَتَابِعَةً، وَمِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ إِذَا حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ، وَمَنْ عَجَزَ عَنِ الْفِدْيَةِ فَإِنَّهُ يَصُومُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّتَابُعُ. قُلْتُ: هِيَ فِي حُكْمِ الْمُتَتَابِعَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّوَابِ؛ إِلَّا أَنَّ الشَّرْعَ خَفَّفَ بِالتَّفْرِيقِ. ثَامِنُهَا: أَنَّ السَّبْعَ قَدْ تُذْكَرُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْكَثْرَةُ لَا الْعَدَدُ، وَالَّذِي فَوْقَ السِّتَّةِ وَدُونَ الثَّمَانِيَةِ، وَرَوَى أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ وَابْنُ الْأَعْرَابِيِّ عَنِ الْعَرَبِ: سَبَّعَ اللَّهُ لَكَ الْأَجْرَ؛ أَيْ: أَكْثَرَ ذَلِكَ، يُرِيدُونَ التَّضْعِيفَ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} (التَّوْبَةِ: 80): " هُوَ جَمْعُ السَّبْعِ، الَّذِي يُسْتَعْمَلُ لِلْكَثْرَةِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاحْتَمَلَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّبْعِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنَ السَّبْعِ، وَلَفْظُهَا مَعْطُوفٌ عَلَى الثَّلَاثَةِ بِآلَةِ الْجَمْعِ، فَيُفْضِي إِلَى الزِّيَادَةِ فِي الْكَفَّارَةِ عَلَى الْعَدَدِ الْمَشْرُوعِ، فَيَجِبُ حِينَئِذٍ رَفْعُ هَذَا الِاحْتِمَالِ بِذِكْرِ الْفَذْلَكَةِ؛ وَلِلْعَرَبِ مُسْتَنَدٌ قَوِيٌّ فِي إِطْلَاقِ السَّبْعِ وَالسَّبْعَةِ، وَهِيَ تُرِيدُ الْكَثْرَةَ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعُ ذِكْرِهِ ". تَاسِعُهَا: أَنَّ الثَّلَاثَةَ لَمَّا عُطِفَ عَلَيْهَا السَّبْعَةُ احْتَمَلَ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَهَا ثَلَاثَةٌ أَوْ غَيْرُهَا مِنَ الْأَعْدَادِ، فَقُيِّدَ بِالْعَشَرَةِ؛ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ كَمُلَ، وَقَطَعَ الزِّيَادَةَ الْمُفْضِيَةَ لِلتَّسَلْسُلِ. عَاشِرُهَا: أَنَّ السَّبْعَةَ الْمَذْكُورَةَ عَقِبَ الثَّلَاثَةِ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الثَّلَاثَةُ دَاخِلَةً فِيهَا، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} (فُصِّلَتْ: 10) أَيْ: مَعَ الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ خَلَقَ الْأَرْضَ فِيهِمَا، فَلَا بُدَّ مِنَ اعْتِقَادِ هَذَا التَّأْوِيلِ؛ لِيَنْدَفِعَ ظَاهِرُ التَّنَاقُضِ، فَجَاءَ التَّقْيِيدُ بِالْعَشَرَةِ لِرَفْعِ تَوَهُّمِ التَّدَاخُلِ. وَهَذَا الْجَوَابُ أَشَارَ إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَنُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ تَرْجِيحُهُ، وَرَدَّدَهُ ابْنُ أَبِي الْإِصْبَعِ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ التَّدَاخُلِ لَا يُظَنُّ إِلَّا بِعَدَدَيْنِ مُنْفَصِلَيْنِ لَمْ يَأْتِ بِهِمَا جُمْلَةً، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى التَّفْصِيلِ احْتَمَلَ ذَلِكَ؛ فَالتَّقْيِيدُ مَانِعٌ مِنْ هَذَا الِاحْتِمَالِ. وَهَذَا أَعْجَبُ مِنْهُ فَإِنَّ مَجِيءَ الْجُمْلَةِ رَافِعٌ لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ. الْحَادِي عَشَرَ: أَنَّ حُرُوفَ السَّبْعَةِ وَالتِّسْعَةِ مُشْتَبِهَةٌ، فَأُزِيلَ الْإِشْكَالُ بِقَوْلِهِ: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (الْبَقَرَةِ: 196)؛ لِئَلَّا يَقْرَءُوهَا " تِسْعَةً " فَيَصِيرُ الْعَدَدُ اثْنَيْ عَشَرَ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا؛ لِإِزَالَةِ إِلْبَاسِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ بِالسَّبْعَةِ وَالسَّبْعِينَ، لَكِنَّ مِثْلَ هَذَا مَأْمُونٌ فِي الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ حَفِظَهُ.
وَالْعَجَبُ أَنَّ الْبَيَانِيِّينَ لَمْ يَذْكُرُوهُ فِي أَقْسَامِ الْإِطْنَابِ. وَمِنْهُ بَيْتُ " الْكِتَابِ ": إِذَا الْوَحْشُ ضَمَّ الْوَحْشَ فِي ظُلَلَاتِهَا *** سَوَاقِطُ مِنْ حَرٍّ وَقَدْ كَانَ أَظْهَرَا وَلَوْ أَتَى عَلَى وَجْهِهِ لَقَالَ: " إِذَا الْوَحْشُ ضَمَّهَا ". وَإِنَّمَا يُسْأَلُ عَنْ حِكْمَتِهِ إِذَا وَقَعَ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، فَإِنْ كَانَ فِي جُمْلَتَيْنِ مُسْتَقِلَّتَيْنِ كَالْبَيْتِ سَهُلَ الْأَمْرُ، لَكِنَّ الْجُمْلَتَيْنِ فِيهِ كَالْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ الرَّافِعَ لِلْوَحْشِ الْأَوَّلِ فِعْلٌ مَحْذُوفٌ كَمَا يَقُولُ الْبَصْرِيُّونَ، وَالْفِعْلُ الْمَذْكُورُ سَادٌّ مَسَدَّ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ حَتَّى كَأَنَّهُ هُوَ؛ وَلِهَذَا لَا يَجْتَمِعَانِ، وَإِنْ قُدِّرَ رَفْعُ الْوَحْشِ بِالِابْتِدَاءِ فَالْكَلَامُ جُمْلَةٌ وَاحِدَةٌ. وَيَسْهُلُ عِنْدَ اخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ كَقَوْلِهِ: إِذَا الْمَرْءُ لَمْ يَغْشَ الْكَرِيهَةَ أَوْشَكَتْ *** حِبَالُ الْهُوَيْنَى بِالْفَتَى أَنْ تَقَطَّعَا فَاخْتِلَافُ لَفْظَيْنِ ظَاهِرَيْنِ أَشْبَهَا لَفْظَيِ الظَّاهِرِ وَالْمُضْمَرِ فِي اخْتِلَافِ اللَّفْظِ؛ وَعَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} (التَّوْبَةِ: 61) ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ} (التَّوْبَةِ: 61) وَلَمْ يَقُلْ: " يُؤْذُونَهُ " مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّعْظِيمِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ كَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: نَبِيُّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ ، وَقَوْلِهِ: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الْبَقَرَةِ: 106) الْآيَةَ؛ فَإِنَّهُ قَدْ تَكَرَّرَ اسْمُ اللَّهِ ظَاهِرًا فِي هَذِهِ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ، وَلَمْ يُضْمَرْ؛ لِدَلَالَتِهِ عَلَى اسْتِقْلَالِ كُلِّ جُمْلَةٍ مِنْهَا، وَأَنَّهَا لَمْ تَحْصُلْ مُرْتَبِطَةً بِبَعْضِهَا ارْتِبَاطَ مَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى إِضْمَارٍ. وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ} (النِّسَاءِ: 76) وَفِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الطَّاغُوتَ هُوَ الشَّيْطَانُ، وَحَسُنَ ذَلِكَ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى تَفْسِيرِهِ. وَقَالَ ابْنُ السَّيِّدِ: " إِنْ كَانَ فِي جُمْلَتَيْنِ حَسُنَ الْإِظْهَارُ وَالْإِضْمَارُ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُمْلَةٍ تَقُومُ بِنَفْسِهَا؛ كَقَوْلِكَ: " جَاءَ زَيْدٌ، وَزَيْدٌ رَجُلٌ فَاضِلٌ " وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: " وَهُوَ رَجُلٌ فَاضِلٌ ". وَقَوْلِهِ: {مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الْأَنْعَامِ: 124)، وَإِنْ كَانَ فِي جُمْلَةٍ وَاحِدَةٍ قَبُحَ الْإِظْهَارُ، وَلَمْ يَكَدْ يُوجَدُ إِلَّا فِي الشِّعْرِ، كَقَوْلِهِ: لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ *** نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا قَالَ: وَإِذَا اقْتَرَنَ بِالِاسْمِ الثَّانِي حَرْفُ الِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالتَّعَجُّبِ كَانَ الْمُنَاسِبُ الْإِظْهَارَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} (الْحَاقَّةِ: 1- 2) وَ{الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ} (الْقَارِعَةِ: 1- 2) وَالْإِضْمَارُ جَائِزٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} (الْقَارِعَةِ: 9، 10). وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَسْمَاءِ أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً، وَأَصْلُ الْمُحَدَّثِ عَنْهُ كَذَلِكَ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ إِذَا ذُكِرَ ثَانِيًا أَنْ يُذْكَرَ مُضْمَرًا لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالظَّاهِرِ السَّابِقِ، كَمَا أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَسْمَاءِ الْإِعْرَابُ، وَفِي الْأَفْعَالِ الْبِنَاءُ، وَإِذَا جَرَى الْمُضَارِعُ مَجْرَى الِاسْمِ أُعْرِبَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (الْعَنْكَبُوتِ: 17). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (الشُّورَى: 40). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} (النَّصْرِ: 3)
وَلِلْخُرُوجِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ أَسْبَابٌ: أَحَدُهَا: قَصْدُ التَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الْبَقَرَةِ: 282). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الْمُجَادَلَةِ: 22). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الْحَشْرِ: 18). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} (الْكَهْفِ: 38) فَأَعَادَ ذِكْرَ " الرَّبِّ " لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعْظِيمِ وَالْهَضْمِ لِلْخَصْمِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} (الْإِخْلَاصِ: 1- 2). {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (غَافِرٍ: 44). {هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي} (الْكَهْفِ: 38). {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} (الْإِسْرَاءِ: 20). {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا} (الْفُرْقَانِ: 11). {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (الْإِسْرَاءِ: 78). {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} (آلِ عِمْرَانَ: 37). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} (الْحَاقَّةِ: 1- 2) {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ} (الْقَارِعَةِ: 1- 2) كَانَ الْقِيَاسُ- لَوْلَا مَا أُرِيدَ بِهِ مِنَ التَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ-: " الْحَاقَّةُ مَا هِيَ ". وَمِثْلُهُ {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} (الْوَاقِعَةِ: 8- 9) تَفْخِيمًا لِمَا يَنَالُ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ جَزِيلِ الثَّوَابِ وَأَلِيمِ الْعِقَابِ وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قُلْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلَا يُرَدُّ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي نَهْيِ الْخَطِيبِ عَنْ عَدَمِ الْإِفْرَادِ احْتِمَالُ عَدَمِ التَّعْظِيمِ، وَهُوَ سَيِّئٌ فِي حَقِّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلِأَنَّ كَلَامَ الْخَطِيبِ فِي جُمْلَتَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ إِعَادَتِهِ بِخِلَافِهِ فِي الْآخَرِ.
الثَّانِي: قَصَدُ الْإِهَانَةِ وَالتَّحْقِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} (النُّورِ: 21). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ} (الْمُجَادَلَةِ: 19). وَقَوْلِهِ: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} (الْإِسْرَاءِ: 53). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ} (غَافِرٍ: 37). وَقَوْلِ الشَّاعِرِ: فَمَا لِلنَّوَى لَا بَارَكَ اللَّهُ فِي النَّوَى *** وَعَهْدُ النَّوَى عِنْدَ الْفِرَاقِ ذَمِيمُ وَسَمِعَ الْأَصْمَعِيُّ مَنْ يُنْشِدُ: فَمَا لِلنَّوَى جَدَّ النَّوَى قَطَعَ النَّوَى *** كَذَاكَ النَّوَى قَطَّاعَةٌ لِلْقَرَائِنِ فَقَالَ: لَوْ قُيِّضَ لِهَذَا الْبَيْتِ شَاةٌ لَأَتَتْ عَلَيْهِ.
الثَّالِثُ: الِاسْتِلْذَاذُ بِذِكْرِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} (الْإِسْرَاءِ: 105) إِنْ كَانَ " الْحَقُّ " الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ. وَقَوْلِهِ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (فَاطِرٍ: 10). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} (الزُّمَرِ: 74) وَلَمْ يَقُلْ: " مِنْهَا " وَلِهَذَا عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الْأَرْضِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَرْضِ الْجَنَّةَ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ: كَرِّرْ عَلَى السَّمْعِ مِنِّي أَيُّهَا الْحَادِي *** ذِكْرَ الْمَنَازِلِ وَالْأَطْلَالِ وَالنَّادِي وَقَوْلُهُ: يَا مُطْرِبِي بِحَدِيثِ مَنْ سَكَنَ الْغَضَى *** هِجْتَ الْهَوَى وَقَدَحْتَ فِيَّ حُرَاقِ كَرِّرْ حَدِيثَكَ يَا مُهَيِّجَ لَوْعَتِي *** إِنَّ الْحَدِيثَ عَنِ الْحَبِيبِ تَلَاقِ
الرَّابِعُ: زِيَادَةُ التَّقْدِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} (الْإِسْرَاءِ: 105). وَقَوْلِهِ: {اللَّهُ الصَّمَدُ} (الْإِخْلَاصِ: 2) بَعْدَ قَوْلِهِ: (اللَّهُ أَحَدٌ) (الْإِخْلَاصِ: 1)، وَيَدُلُّ عَلَى إِرَادَةِ التَّقْدِيرِ سَبَبُ نُزُولِهَا، وَهُوَ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ قُرَيْشًا قَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، صِفْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ. فَنَزَلَ: (اللَّهُ أَحَدٌ) (الْإِخْلَاصِ: 1) مَعْنَاهُ أَنَّ الَّذِي سَأَلْتُمُونِي وَصْفَهُ هُوَ اللَّهُ، ثُمَّ لَمَّا أُرِيدَ تَقْدِيرُ كَوْنِهِ " اللَّهَ " أُعِيدَ بِلَفْظِ الظَّاهِرِ دُونَ ضَمِيرِهِ. وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} (غَافِرٍ: 61) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (آلِ عِمْرَانَ: 78). {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} (آلِ عِمْرَانَ: 78)
الْخَامِسُ: إِزَالَةُ اللَّبْسِ حَيْثُ يَكُونُ الضَّمِيرُ يُوهِمُ أَنَّهُ غَيْرُ الْمُرَادِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} (آلِ عِمْرَانَ: 26) لَوْ قَالَ: " تُؤْتِيهِ " لَأَوْهَمَ أَنَّهُ الْأَوَّلُ، قَالَهُ ابْنُ الْخَشَّابِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} (الْفَتْحِ: 6) كَرَّرَ السَّوْءَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: " عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ " لَالْتَبَسَ بِأَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَهُ الْوَزِيرُ الْمَغْرِبِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ ". وَنَظِيرُهُ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا} وَتَبْيِينُهُ: الْأَوَّلُ النُّطْفَةُ أَوِ التُّرَابُ، وَالثَّانِي: الْوُجُودُ فِي الْجَنِينِ أَوِ الطِّفْلِ، وَالثَّالِثُ: الَّذِي بَعْدَ الشَّيْخُوخَةِ، وَهُوَ أَرْذَلُ الْعُمُرِ؛ وَالْقُوَّةُ الْأُولَى الَّتِي تَجْعَلُ لِلطِّفْلِ التَّحَرُّكَ وَالِاهْتِدَاءَ لِلثَّدْيِ، وَالثَّانِيَةُ بَعْدَ الْبُلُوغِ، قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ، وَيُؤَيِّدُ الْغَيْرِيَّةَ التَّنْكِيرُ. وَنَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (الْإِسْرَاءِ: 78) الْآيَةَ، لَوْ قَالَ: " إِنَّهُ " لَأَوْهَمَ عَوْدَ الضَّمِيرِ إِلَى الْفَجْرِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} (النَّحْلِ: 111) فَلَمْ يَقُلْ " عَنْهَا " لِئَلَّا يَتَّحِدَ الضَّمِيرَانِ فَاعِلًا وَمَفْعُولًا؛ مَعَ أَنَّ الْمُظْهَرَ السَّابِقَ لَفْظُ النَّفْسِ، فَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ " ضَرَبَ زَيْدٌ نَفْسَهُ ". وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} (يُوسُفَ: 76) وَإِنَّمَا حَسُنَ إِظْهَارُ الْوِعَاءِ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ " فَاسْتَخْرَجَهَا مِنْهُ " لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ ذَلِكَ لَأَوْهَمَ عَوْدَ الضَّمِيرِ عَلَى الْأَخِ، فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْأَخَ مُبَاشِرٌ لَطَلَبِ خُرُوجِ الْوِعَاءِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِمَا فِي الْمُبَاشِرِ مِنَ الْأَذَى الَّذِي تَأْبَاهُ النُّفُوسُ الْأَبِيَّةُ، فَأُعِيدَ لَفْظُ الظَّاهِرِ لِنَفْيِ هَذَا. وَإِنَّمَا لَمْ يُضْمَرِ الْأَخُ فَيُقَالُ: " ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَائِهِ " لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ضَمِيرَ الْفَاعِلِ فِي (اسْتَخْرَجَهَا) لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَلَوْ قَالَ: " مِنْ وِعَائِهِ " لَتُوُهِّمَ أَنَّهُ يُوسُفُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ، فَأُظْهِرَ لِذَلِكَ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَخَ مَذْكُورٌ مُضَافٌ إِلَيْهِ؛ وَلَمْ يُذْكَرْ فِيمَا تَقَدَّمَ مَقْصُودًا بِالنِّسْبَةِ الْإِخْبَارِيَّةِ، فَلَمَّا احْتِيجَ إِلَى إِعَادَةِ مَا، وَأُضِيفَ إِلَيْهِ أَظْهَرَهُ أَيْضًا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ} (الْمُزَّمِّلِ: 14). {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} (الْعَنْكَبُوتِ: 10)
السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ تَرْبِيَةَ الْمَهَابَةِ وَإِدْخَالَ الرَّوْعَةِ فِي ضَمِيرِ السَّامِعِ بِذِكْرِ الِاسْمِ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ كَمَا يَقُولُ الْخَلِيفَةُ لِمَنْ يَأْمُرُهُ بِأَمْرٍ: " أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَأْمُرُكَ بِكَذَا " مَكَانَ " أَنَا آمُرُكَ بِكَذَا ". وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} (الْحَاقَّةِ: 1- 2). وَقَوْلُهُ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (النِّسَاءِ: 58) {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} (النَّحْلِ: 90). وَقَوْلُهُ: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} (غَافِرٍ: 49) وَلَمْ يَقُلْ: " لِخَزَنَتِهَا ".
السَّابِعُ: قَصْدُ تَقْوِيَةِ دَاعِيَةِ الْمَأْمُورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (آلِ عِمْرَانَ: 159) وَلَمْ يَقُلْ " عَلَيَّ "، وَحِينَ قَالَ: عَلَى اللَّهِ لَمْ يَقُلْ: " إِنَّهُ يُحِبُّ "، أَوْ " إِنِّي أُحِبُّ " تَقْوِيَةً لِدَاعِيَةِ الْمَأْمُورِ بِالتَّوَكُّلِ بِالتَّصْرِيحِ بِاسْمِ الْمُتَوَكَّلِ عَلَيْهِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الْبَقَرَةِ: 282).
الثَّامِنُ: تَعْظِيمُ الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} (الْعَنْكَبُوتِ: 19- 20). وَقَوْلِهِ: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} (الْإِنْسَانِ: 1- 2) وَلَمْ يَقُلْ " خَلَقْنَاهُ " لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عِظَمِ خَلْقِهِ لِلْإِنْسَانِ. وَقَوْلِهِ: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} (الْمُزَّمِّلِ: 14) فَإِنَّمَا أُعِيدَ لَفْظُ الْجِبَالِ وَالْقِيَاسُ الْإِضْمَارُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهَا، مِثْلُ مَا ذَكَرْنَا فِي " الم السَّجْدَةِ " فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ} (السَّجْدَةِ: 20) وَهُوَ أَنَّ الْآيَتَيْنِ سِيقَتَا لِلتَّخْوِيفِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى عِظَمِ الْأَمْرِ، فَإِعَادَةُ الظَّاهِرِ أَبْلَغُ. وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يَذْكُرِ الْجِبَالَ لَاحْتُمِلَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى الْأَرْضِ
التَّاسِعُ: أَنْ يُقْصَدَ التَّوَصُّلُ بِالظَّاهِرِ إِلَى الْوَصْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} (الْأَعْرَافِ: 158) بَعْدَ قَوْلِهِ فِي صَدْرِ الْآيَةِ: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الْأَعْرَافِ: 158) {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (الْأَعْرَافِ: 158) دُونَ " فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَبِي "، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إِجْرَاءِ الصِّفَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا مِنَ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ: " وَبِي " لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَا يُوصَفُ لِيُعْلَمَ أَنَّ الَّذِي وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ وَالِاتِّبَاعُ لَهُ هُوَ مَنْ وُصِفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ كَائِنًا مَنْ كَانَ، أَنَا أَوْ غَيْرِي إِظْهَارًا لِلنَّصَفَةِ، وَبُعْدًا مِنَ التَّعَصُّبِ لِنَفْسِهِ.
الْعَاشِرُ: التَّنْبِيهُ عَلَى عِلَّةِ الْحُكْمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} (الْبَقَرَةِ: 59). وَقَوْلِهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} (الْبَقَرَةِ: 98) أَعْلَمَنَا أَنَّهُ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِهَؤُلَاءِ فَهُوَ كَافِرٌ، هَذَا إِنْ خِيفَ الْإِلْبَاسُ لِعَوْدِهِ لِلْمَذْكُورِينَ. وَكَذَا قَوْلُهُ: (فَإِنَّ اللَّهَ) دُونَ " فَإِنَّهُ ". وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} (الْبَقَرَةِ: 59) وَلَمْ يَقُلْ: " عَلَيْهِمْ "؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الضَّمِيرِ مَا فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} مِنْ ذِكْرِ الظُّلْمِ الْمُسْتَحَقُّ بِهِ الْعَذَابُ. وَجَعَلَ مِنْهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (الْكَهْفِ: 30). وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} (الْبَقَرَةِ: 89) وَالْأَصْلُ " عَلَيْهِمْ "؛ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ اللَّعْنَةَ لَحِقَتْهُمْ لِكُفْرِهِمْ. وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يُوسُفَ: 90) فَإِنَّ الْعِلَّةَ قَدْ تَقَدَّمْتُ فِي الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا فَائِدَةُ ذَلِكَ إِثْبَاتُ صِفَةٍ أُخْرَى زَائِدَةٍ، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَائِدَتُهُ اشْتِمَالُهُ عَلَى الْمُتَّقِينَ وَالصَّابِرِينَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} (النِّسَاءِ: 64) لِأَنَّ شَفَاعَةَ مَنِ اسْمُهُ الرَّسُولُ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانٍ عَظِيمٍ. وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} (الْأَنْعَامِ: 21) وَالْقِيَاسُ " أَنَّهُمْ لَا يُفْلِحُونَ " وَلَوْ ذَكَرَ الظَّاهِرَ لَقَالَ: لَا يُفْلِحُ الْمُفْتَرُونَ، أَوِ " الْكَاذِبُونَ "، لَكِنْ صَرَّحَ بِالظُّلْمِ؛ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ عِلَّةَ عَدَمِ الْفَلَاحِ الظُّلْمُ. وَقَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} (الْأَعْرَافِ: 170) وَلَمْ يَقُلْ: " أَجْرَهُمْ " تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ صَلَاحَهُمْ عِلَّةٌ لِنَجَاتِهِمْ. وَقَوْلُهُ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (الْكَوْثَرِ: 1- 2) وَلَمْ يَقُلْ: " لَنَا " لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّهُ أَهْلٌ لِأَنْ يُصَلِّيَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ رَبُّهُ الَّذِي خَلَقَهُ وَأَبْدَعَهُ وَرَبَّاهُ بِنِعْمَتِهِ. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} (الْبَقَرَةِ: 98) قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرَادَ " عَدُوًّا لَهُمْ " فَجَاءَ بِالظَّاهِرِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ إِنَّمَا عَادَاهُمْ لِكُفْرِهِمْ، وَأَنَّ عَدَاوَةَ الْمَلَائِكَةِ كُفْرٌ، وَإِذَا كَانَتْ عَدَاوَةُ الْأَنْبِيَاءِ كُفْرًا، فَمَا بَالُ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ أَشْرَفُ؟! وَالْمَعْنَى: وَمَنْ عَادَاهُمْ عَادَاهُ اللَّهُ، وَعَاقَبَهُ أَشَدَّ الْعِقَابِ الْمُهِينِ. انْتَهَى. وَقَدْ أَدْمَجَ فِي هَذَا الْكَلَامِ مَذْهَبَهُ فِي تَفْضِيلِ الْمَلَكِ عَلَى النَّبِيِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا فَهُوَ كَمَا قِيلَ: وَمَا كُنْتُ زَوَّارًا وَلَكِنَّ ذَا الْهَوَى *** إِلَى حَيْثُ يَهْوَى الْقَلْبُ تَهْوِي بِهِ الرِّجْلُ وَمِثْلُهُ قَوْلُ مُطِيعٍ: أُمِّي الضَّرِيحَ الَّذِي أُسَمِّي *** ثُمَّ اسْتَهِلُّ عَلَى الضَّرِيحِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ: " عَلَيْهِ "؛ لِأَنَّهُ بَاكٍ بِذِكْرِ الضَّرِيحِ الَّذِي مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَبْكِيَ عَلَيْهِ وَيَحْزَنَ لِذِكْرَاهُ.
الْحَادِي عَشَرَ: قَصْدُ الْعُمُومِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} (الْكَهْفِ: 77) وَلَمْ يَقُلْ: " اسْتَطْعَمَهُمْ " لِلْإِشْعَارِ بِتَأْكِيدِ الْعُمُومِ؛ وَأَنَّهُمَا لَمْ يَتْرُكَا أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا إِلَّا اسْتَطْعَمَاهُ وَأَبَى، وَمَعَ ذَلِكَ قَابَلَهُمْ بِأَحْسَنِ الْجَزَاءِ، وَفِيهِ التَّنْبِيهُ عَلَى مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ، وَدَفْعُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} (يُوسُفَ: 53) فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: " إِنَّهَا لَأَمَّارَةٌ " لَاقْتَضَى تَخْصِيصَ ذَلِكَ؛ فَأَتَى بِالظَّاهِرِ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّعْمِيمُ، مَعَ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ: {إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} (يُوسُفَ: 53) وَقَوْلِهِ: {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (يُوسُفَ: 53) وَلَمْ يَقُلْ: " إِنَّهُ " إِمَّا لِلتَّعْظِيمِ، وَإِمَّا لِلِاسْتِلْذَاذِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} (النَّجْمِ: 28) وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا} (الشُّورَى: 48)، ثُمَّ قَالَ: {فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} (الشُّورَى: 48) وَلَمْ يَقُلْ: " فَإِنَّهُ " مُبَالَغَةً فِي إِثْبَاتِ أَنَّ هَذَا الْجِنْسِ شَأْنُهُ كُفْرَانُ النِّعَمِ.
الثَّانِي عَشَرَ: قَصْدُ الْخُصُوصِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} (الْأَحْزَابِ: 50) وَلَمْ يَقُلْ: " لَكَ "؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَتَى بِالضَّمِيرِ لَأُخِذَ جَوَازُهُ لِغَيْرِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ} (الْأَحْزَابِ: 50) فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الظَّاهِرِ؛ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِغَيْرِهِ ذَلِكَ
الثَّالِثَ عَشَرَ: مُرَاعَاةُ التَّجْنِيسِ وَمِنْهُ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} (النَّاسِ: 1) السُّورَةَ، ذَكَرَهُ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
الرَّابِعَ عَشَرَ: أَنْ يَتَحَمَّلَ ضَمِيرًا لَا بُدَّ مِنْهُ كَقَوْلِهِ: {أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} (الْكَهْفِ: 77).
الْخَامِسَ عَشَرَ: كَوْنُهُ أَهَمَّ مِنَ الضَّمِيرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} (الْبَقَرَةِ: 282) وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا أُعِيدَ (إِحْدَاهُمَا) لِتَعَادُلِ الْكَلِمِ وَتَوَازُنِ الْأَلْفَاظِ فِي التَّرْكِيبِ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ فِي التَّرْصِيعِ الْبَدِيعِيِّ، بَلْ هَذَا أَبْلَغُ مِنَ التَّرْصِيعِ؛ فَإِنَّ التَّرْصِيعَ تَوَازُنُ الْأَلْفَاظِ مِنْ حَيْثُ صِيَغِهَا، وَهَذَا مِنْ حَيْثُ تَرْكِيبِهَا، فَكَأَنَّهُ تَرْصِيعٌ مَعْنَوِيٌّ، وَقَلَّمَا يُوجَدُ إِلَّا فِي نَادِرٍ مِنَ الْكَلَامِ، وَقَدِ اسْتَغْرَبَ أَبُو الْفَتْحِ مَا حُكِيَ عَنِ الْمُتَنَبِّي فِي قَوْلِهِ: وَقَدْ صَارَتِ الْأَجْفَانُ قَرْحًى مِنَ الْبُكَا *** وَصَارَ بَهَارًا فِي الْخُدُودِ الشَّقَائِقُ قَالَ: سَأَلْتُهُ: هَلْ هُوَ " قَرْحَى " أَوْ " قَرْحًا " مُنَوَّنٌ؟ فَقَالَ لِي: " قَرْحًا " مُنَوَّنٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَهَا " وَعَادَتْ بَهَارًا "؟ قَالَ: يَعْنِي أَنَّ " بَهَارًا " جَمْعُ بَهَارٍ، وَ " قَرْحًى " جَمْعُ قُرْحَةٍ، ثُمَّ أَطْنَبَ فِي الثَّنَاءِ عَلَى الْمُتَنَبِّي، وَاسْتَغْرَبَ فِطْنَتَهُ لِأَجْلِ هَذَا. وَبَيَانُ مَا ذَكَرْتُ فِي الْآيَةِ أَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِقِسْمَيْنِ: قِسْمُ الضَّلَالِ وَقِسْمُ التَّذْكِيرِ، فَأَسْنَدَ الْفِعْلَ الثَّانِيَ إِلَى ظَاهِرٍ حَيْثُ أَسْنَدَ الْأَوَّلَ، وَلَمْ يُوصَلْ بِضَمِيرٍ مَفْصُولٍ؛ لِكَوْنِ الْأَوَّلِ لَازِمًا، فَأَتَى بِالثَّانِي عَلَى صُورَتِهِ مِنَ التَّجَرُّدِ عَنِ الْمَفْعُولِ، ثُمَّ أَتَى بِهِ خَبَرًا بَعْدَ اعْتِدَالِ الْكَلَامِ، وَحُصُولِ التَّمَاثُلِ فِي تَرْكِيبِهِ. وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ الْمَرْفُوعَ حَرْفٌ لَكَانَ أَبْلَغَ فِي الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَيَكُونُ الْأَخِيرُ بَدَلًا أَوْ نَعْتًا عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ، كَأَنَّهُ قَالَ: " إِنْ كَانَ ضَلَالٌ مِنْ إِحْدَاهُمَا كَانَ تَذْكِيرٌ مِنَ الْأُخْرَى " وَقَدَّمَ عَلَى " الْأُخْرَى " لَفْظَ " إِحْدَاهُمَا " لِيُسْنِدَ الْفِعْلَ الثَّانِيَ إِلَى مِثْلِ مَا أُسْنِدَ إِلَيْهِ الْأَوَّلُ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ
السَّادِسَ عَشَرَ: كَوْنُ مَا يَصْلُحُ لِلْعَوْدِ وَلَمْ يُسَقِ الْكَلَامُ لَهُ كَقَوْلِهِ: {رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ} (الْأَنْعَامِ: 124)، وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ: تَبْكِي عَلَى زَيْدٍ وَلَا زَيْدَ مِثْلَهُ *** بَرِيءٌ مِنَ الْحُمَّى سَلِيمُ الْجَوَانِحِ
السَّابِعَ عَشَرَ: الْإِشَارَةُ إِلَى عَدَمِ دُخُولِ الْجُمْلَةِ فِي حُكْمِ الْأُولَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} (الشُّورَى: 24) فِي سُورَةِ الشُّورَى، فَإِنْ (يَمْحُ) اسْتِئْنَافٌ وَلَيْسَ عَطْفًا عَلَى الْجَوَابِ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَى الشَّرْطِ عُدِمَ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَهَذَا صَحِيحٌ فِي {يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ {وَلَيْسَ صَحِيحًا فِي {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} (الشُّورَى: 24) لِأَنَّ مَحْوَ الْبَاطِلِ ثَابِتٌ؛ فَلِذَلِكَ أُعِيدَ الظَّاهِرُ، وَأَمَّا حَذْفُ الْوَاوِ مِنَ الْخَطِّ فَلِلَّفْظِ، وَأَمَّا حَذْفُهَا فِي الْوَقْفِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَدْعُ الدَّاعِ} (الْقَمَرِ: 6) {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} (الْعَلَقِ: 18) فَلِلْوَقْفِ، وَيُؤَكِّدُ ذَلِكَ وُقُوفُ يَعْقُوبَ عَلَيْهَا بِالْوَاوِ. وَهَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي كَلَامِهِ عَلَى الْبَزْدَوِيِّ، وَفِيمَا ذَكَرَهُ نِزَاعٌ، وَهَذَا أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُعَلَّقَ هَاهُنَا بِالشَّرْطِ هُوَ مَوْجُودٌ قَبْلَ الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُنَا الْمَشِيئَةُ وَلَيْسَ الْمَحْوُ ثَابِتًا قَبْلَ الْمَشِيئَةِ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ الشَّرْطَ هُنَا مَشِيئَةٌ خَاصَّةٌ، وَهِيَ مَشِيئَةُ الْخَتْمِ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ مَحْذُوفًا فَهُوَ مَذْكُورٌ بِالْقُوَّةِ، شَائِعٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمَاكِنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} (الْأَنْعَامِ: 35) {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} (الْأَنْعَامِ: 107) {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} (الْبَقَرَةِ: 253) الْمَعْنَى: " وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ جَمْعَهُمْ لَجَمَعَهُمْ، وَ " لَوْ شَاءَ اللَّهُ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ مَا أَشْرَكُوا " وَ " لَوْ شَاءَ اللَّهُ عَدَمَ قِتَالِهِمْ مَا اقْتَتَلُوا ". قِيلَ: لَا يَكَادُ يَثْبُتُ مَفْعُولُ الْمَشِيئَةِ إِلَّا نَادِرًا، كَمَا سَيَأْتِي فِي الْحَذْفِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا صَحَّ مَا ادَّعَيْنَاهُ؛ فَإِنَّ مَحْوَ اللَّهِ ثَابِتٌ قَبْلَ مَشِيئَةِ اللَّهِ الْخَتْمَ. فَإِنْ قُلْتَ: سَلَّمْنَا أَنَّ الشَّرْطَ مَشِيئَةٌ خَاصَّةٌ، لَكِنَّهَا إِنَّمَا تَخْتَصُّ بِقَرِينَةِ الْجَوَابِ. وَالْجَوَابُ: هُنَا شَيْئَانِ: فَالْمَعْنَى: إِنْ يَشَأِ اللَّهُ الْخَتْمَ وَمَحْوَ الْبَاطِلِ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ، وَيَمْحُ الْبَاطِلَ، وَحِينَئِذٍ لَا يَتِمُّ مَا ادَّعَاهُ. وَجَوَابُهُ أَنَّ الشَّرْطَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ثَابِتٍ وَغَيْرَ مُمْتَنِعٍ، وَ " يَمْحُو الْبَاطِلَ " كَانَ ثَابِتًا، فَلَا يَصِحُّ دُخُولُهُ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ، وَهَذَا أَحْسَنُ جِدًّا. بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْجَوَابَ لَيْسَ كُلًّا مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ؛ بَلْ مَجْمُوعَ الْجُمْلَتَيْنِ وَالْمَجْمُوعُ مَعْدُومٌ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ؛ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا ثَابِتًا.
تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: قَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْأَوَّلِ؛ لِيَشْمَلَ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} (الْكَهْفِ: 30). وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} (الْبَقَرَةِ: 105)؛ لِأَنَّ إِنْزَالَ الْخَيْرِ هُنَا سَبَبٌ لِلرُّبُوبِيَّةِ، وَأَعَادَهُ بِلَفْظِ " اللَّهِ " لِأَنَّ تَخْصِيصَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ دُونَ غَيْرِهِمْ مُنَاسِبٌ لِلْإِلَهِيَّةِ؛ لِأَنَّ دَائِرَةَ الرُّبُوبِيَّةِ أَوْسَعُ. وَمِثْلُهُ {وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} (الزُّمَرِ: 74) كَمَا سَبَقَ. وَمِنْ فَوَائِدِهِ التَّلَذُّذُ بِذِكْرِهِ وَتَعْظِيمُ الْمِنَّةِ بِالنِّعْمَةِ. وَمِنْ فَوَائِدِهِ: قَصْدُ الذَّمِّ وَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ} (النَّبَأِ: 40) فَقَالَ: الْمَرْءُ هُوَ الْكَافِرُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وُضِعَ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ لِزِيَادَةِ الذَّمِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (الْمُنَافِقُونَ: 6) إِنَّ الْفَاسِقِينَ يُرَادُ بِهِمُ الْمُنَافِقُونَ، وَيَكُونُ قَدْ أَقَامَ الظَّاهِرَ مَقَامَ الْمُضْمَرِ وَالتَّصْرِيحُ بِصِفَةِ الْفِسْقِ سَبَبٌ لَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْعُمُومَ لِكُلِّ فَاسِقٍ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُنَافِقُونَ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَكَذَا سَائِرُ هَذِهِ النَّظَائِرِ. وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} (الْإِسْرَاءِ: 25) أَيْ: فِي مُعَامَلَةِ الْأَبَوَيْنِ {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا} (الْإِسْرَاءِ: 25). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ} (الْبَقَرَةِ: 97) إِلَى قَوْلِهِ: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} (الْبَقَرَةِ: 98). وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا فِيهِ شَرْطٌ؛ فَإِنَّ الشُّرُوطَ أَسْبَابٌ، وَلَا يَكُونُ الْإِحْسَانُ لِلْوَالِدَيْنِ سَبَبًا لِغُفْرَانِ اللَّهِ لِكُلِّ تَائِبٍ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يُثَابَ غَيْرُ الْفَاعِلِ بِفِعْلِ غَيْرِهِ؛ وَهُوَ خِلَافُ الْوَاقِعِ، وَكَذَلِكَ مُعَادَاةُ بَعْضِ الْكَفَرَةِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِمُعَادَاةِ كُلِّ كَافِرٍ، فَتَعَيَّنَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ إِقَامَةِ الظَّاهِرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ لَيْسَ إِلَّا. الثَّانِي: قَدْ مَرَّ أَنَّ سُؤَالَ وَضْعِ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ؛ نَحْوَ{الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} (الْحَاقَّةِ: 1- 2) فَأَمَّا إِذَا وَقَعَ فِي جُمْلَتَيْنِ فَأَمْرُهُ سَهْلٌ، وَهُوَ أَفْصَحُ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ جُمْلَتَانِ، فَحَسُنَ فِيهِمَا مَا لَا يَحْسُنُ فِي الْجُمْلَةِ الْوَاحِدَةِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: لَا أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ *** نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرَا فَتَكْرَارُ " الْمَوْتِ " فِي عَجُزِ الْبَيْتِ أَوْسَعُ مِنْ تَكْرَارِهِ فِي صَدْرِهِ؛ لِأَنَّا إِذَا عَلَّلْنَا هَذَا إِنَّمَا نَقُولُ: أَعَادَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ لَمَّا أَرَادَ مِنْ تَعْظِيمِ الْمَوْتِ وَتَهْوِيلِ أَمْرِهِ، فَإِذَا عَلَّلَهَا مُكَرَّرَةً فِي عَجُزِهِ عَلَّلْنَاهُ بِهَذَا، وَبِأَنَّ الْكَلَامَ جُمْلَتَانِ. إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَمِثَالُهُ فِي الْجُمْلَتَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} (الْبَقَرَةِ: 282) وَقَوْلِهِ: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ} (الْعَنْكَبُوتِ: 31). وَقَدْ أُشْكِلَ الْإِظْهَارُ هَاهُنَا، وَالْإِضْمَارُ فِي الْمِثْلِ قوله: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} (الْقَصَصِ: 32). وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمُرَادُ فِي مَدَائِنِ لُوطٍ إِهْلَاكَ الْقُرَى صَرَّحَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِذِكْرِ الْقَرْيَةِ الَّتِي يَحِلُّ بِهَا الْهَلَاكُ؛ كَأَنَّهَا اكْتَسَبَتِ الظُّلْمَ مَعَهُمْ وَاسْتَحَقَّتِ الْهَلَاكَ مَعَهُمْ؛ إِذْ لِلْبِقَاعِ تَأْثِيرٌ فِي الطِّبَاعِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادَ فِي قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِهْلَاكُهُمْ بِصِفَاتِهِمْ حَيْثُ كَانُوا، وَلَمْ يُهْلِكْ بَلَدَهُمْ، أَتَى بِالضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى ذَوَاتِهِمْ مِنْ حَيْثُ هِيَ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلْمَكَانِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ مَتَى طَالَ الْكَلَامُ حَسُنَ إِيقَاعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ؛ كَيْلَا يَبْقَى الذِّهْنُ مُتَشَاغِلًا بِسَبَبِ مَا يَعُودُ عَلَيْهِ اللَّفْظُ، فَيَفُوتُهُ مَا شَرَعَ فِيهِ، كَمَا إِذَا كَانَ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ آيَةٍ أُخْرَى؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ} (الْبَقَرَةِ: 140) الْآيَةَ. وَقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} (الْبَقَرَةِ: 143). وَقَوْلِهِ: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} (النُّورِ: 35). وَقَوْلِهِ: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} (النُّورِ: 37) الْآيَةَ.
|